كيف يمكن الموازنة بين الحديثين عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم : ( لا تسبوا أصحابي ، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما
بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) والحديث الذي يقول فيه : إن لنا خمسين مثلا من
الأجر الذي لهم ، لأننا لم نره ولكننا صدقنا به بالغيب والأحاديث ووجود
الأجيال المتتابعة ؟
الحمد للّه
أولا :
أما الحديث الأول فهو حديث متفق على صحته بين أهل العلم ، رواه البخاري (3673)
ومسلم (2541) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
( لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي ، لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي ، فَوَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ
أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ )
وأما الحديث الثاني فقد جاء بسياقات متقاربة عن ثمانية من الصحابة ، هم أبو ثعلبة
الخشني وعبد الله بن مسعود وأبو أمامة وعتبة بن غزوان وأنس بن مالك وعبد الله بن
عمر ومعاذ بن جبل ، ومحل الشاهد الذي ذكره السائل هو قدر مشترك بين هذه السياقات ،
ولفظه من حديث أبي ثعلبة عند الترمذي (3058) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (
َإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى
الْجَمْرِ ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ
مِثْلَ عَمَلِكُمْ ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَزَادَنِي غَيْرُ
عُتْبَةَ : قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ ؟!
قَالَ بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ )
وقد تبين بعد البحث أن في جميع طرق الحديث وشواهده ما يضعفه عن الاحتجاج به ، ولا
يسلم منها طريق من مطعن ، إلا أن بعض أهل العلم ذهب إلى تحسين الحديث لكثرة طرقه
وشواهده ، فقد قال الترمذي في حديث أبي ثعلبة هذا : حديث حسن غريب . وصححه
أيضا بمجموع طرقه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (494)
ثانيا :
على القول بتصحيح الحديث الثاني يبدو أن فيه معارضة للحديث الأول ، فإن مقتضى الأول
أن الأجر الذي يكتبه الله لعمل الصحابة السابقين أعظم من أجر العمل نفسه إذا قام به
مَن بعدهم ، والحديث الثاني فيه أن أجر مَن بعد الصحابة في زمن الفتنة والشدة أكثر
من أجر الصحابة ؟
وقد سلك أهل العلم في التوفيق بين هذين الحديثين وحل هذا التعارض الظاهري مسلكين
اثنين:
الأول : قالوا بأن جميع أعمال السابقين من الصحابة أكثر أجورا وأعظم ثوابا إلا عملا
واحدا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن المتأخرين من المسلمين من الذين
يعيشون زمان الغربة لهم عليه من الأجور ما يفوق أجر الصحابة عليه ، لأنهم لا يجدون
على الحق أعوانا .
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام :
" الإنفاق في أول الإسلام أفضل لقوله عليه السلام لخالد بن الوليد رضي الله عنه : (
لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) أي مد الحنطة .
والسبب فيه أن تلك النفقة أثمرت في فتح الإسلام وإعلاء كلمة الله ما لا يثمر غيرها
.
وكذلك الجهاد بالنفوس ، لا يصل المتأخرون فيه إلى فضل المتقدمين ، لقلة عدد
المتقدمين ، وقلة أنصارهم ، فكان جهادهم أفضل ، ولأن بذل النفس مع النصرة ورجاء
الحياة ليس كبذلها مع عدمها ، ولذلك قال عليه السلام : ( أفضل الجهاد كلمة حق عند
سلطان جائر ) جعله أفضل الجهاد ليأسه من حياته .
وأما النهي عن المنكر بين ظهور المسلمين وإظهار شعائر الإسلام فإن ذلك شاق على
المتأخرين لعدم المعين ، وكثرة المنكر فيهم ، كالمنكر على السلطان الجائر ، ولذلك
قال عليه السلام : ( يكون القابض كالقابض على الجمر ) لا يستطيع دوام ذلك لمزيد
المشقة ، فكذلك المتأخر في حفظ دينه ، وأما المتقدمون فليسوا كذلك لكثرة المعين
وعدم المنكر ، فعلى هذا يُنَزَّل الحديث " انتهى . نقلا عن "عون المعبود"
(11/333)
فهذا المسلك يخصص نوع العمل ، فيجعل جميع أعمال الصحابة فاضلة في أجورها على من
بعدهم إلا عملا واحدا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
المسلك الثاني : أن أعمال الصحابة أجرها أعظم وثوابها أكبر من أعمال من بعدهم ، إلا
في أيام الفتنة وغربة الدين ، فإن أعمال من بعدهم أفضل من أعمال الصحابة في زمن
الطمأنينة وانتشار الإسلام ، فالتخصيص هنا في زمان العمل وليس في أنواع العمل .
يقول الشوكاني في "نيل الأوطار" (89/368) :
" أعمال الصحابة فاضلة مطلقا من غير تقييد لحالة مخصوصة ، كما يدل عليه : ( لو أنفق
أحدكم مثل أحد ) الحديث . إلا أن هذه المزية للسابقين منهم .
وأما أعمال من بعد الصحابة فلم يَرِد ما يدل على كونها أفضل على الإطلاق ، إنما ورد
ذلك مقيدا بأيام الفتنة وغربة الدِّين ، حتى كان أجر الواحد يعدل أجر خمسين رجلا من
الصحابة ، فيكون هذا مخصصا لعموم ما ورد في أعمال الصحابة ، فأعمال الصحابة فاضلة ،
وأعمال من بعدهم مفضولة ، إلا في مثل تلك الحالة " انتهى .
ثالثا :
وعلى جميع الأحوال فإن أحدا من أهل العلم لم يقل بأن مِن المتأخرين مِن المسلمين
مَن يفوق السابقين مِن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بدر وأحد وبيعة
الرضوان ، وليس في الحديث ما يدل على ذلك ، بل غاية ما فيه – إن سلَّمنا بصحته –
أنَّ أجورَ بعض الأعمال في زمن الفتنة والغربة تضاعف لهم على أجور من لم يدرك غربة
الإسلام الأولى من الصحابة رضي الله عنهم .
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري" (7/7) :
" على أن حديث ( للعامل منهم أجر خمسين منكم ) لا يدل على أفضلية غير الصحابة على
الصحابة ؛ لأن مجرد زيادة الأجر لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة ، وأيضا فالأجر
إنما يقع تفاضله بالنسبة إلى ما يماثله في ذلك العمل ، فأما ما فاز به من شاهد
النبي صلى الله عليه وسلم من زيادة فضيلة المشاهدة فلا يعدله فيها أحد "
انتهى .
فالفضل والقدر والمنزلة الأعلى ثابتة لصحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد أكرمهم
الله بمشاهدة ومصاحبة خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا الفضل لن يدركه
بحال أحد ممن جاء بعدهم ، وزيادة أجور مَن بعدهم في بعض الأعمال أو الأحوال لا يلزم
منه أبدا التقدم عليهم في الفضل والمنزلة ، خاصة وأن أجور مَن بعد الصحابة تؤول في
محصَّلها إلى موازين حسنات الصحابة الذين نقلوا لنا الدين والشريعة ، وحملوا لنا
هذا الفضل العظيم ، فبلغوا الأمانة على وجهها ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : (
مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ ) رواه مسلم (1893)
وقد سبق تفصيل ذلك في موقعنا في جواب السؤال رقم
والله أعلم